خيانة العهد والوفاء به

خيانة العهد والوفاء به

خيانةُ العَهْد ، والوفاءُ به

إلى أصحابي وتلاميذي وضُيوفي : اسمعوا وخُذوا هذه الكلمات عسى أن تتعظوا …

ما بين الخيانة والوفاء بالعَهْد شُعُورٌ إنسانيٌ بَحْت يَغْلي في قِدْر الصَّدْر ، تشبيهٌ مجازي ما بين صَدْر الإنسان وما بين القِدْر ، فالشعورُ الإنساني والانتماء إلى الذَّات الإنسانية دافعٌ قوي نحو الفضيلة ، فالعاقلُ يُفكِّرُ في العاقبة وما تؤول إليه الأمور ، وكمثالٍ على هذا المعنى : سيد شباب أهل الجنة الإمام الحُسين (عليه السلام) ، كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : (حسينٌ منّي وأنا من حُسين)

(حسينٌ منّي) : يعني الزمن ، الأبُ يتزوج فيأتي بالأولاد ، والأولادُ يتزوجون ويأتون بالأحفاد وهكذا ..فهو دليل على مُرور الزمن .

وأمَّا الشَّطْرُ الآخر (وأنا من حُسين) : فهذا لا يحدث إلا إذا توقَّف الزَّمن  .

وسنكتُب عن معنى (وأنا من حُسين) في بحثٍ قادم أو مقالةٍ أخرى بإذن الله .

أمَّا حديثُنا اليوم، فعن الوفاء والعهد والإنسانية والرابط بين الأستاذ والتلميذ ، والشَّيخ والمريد ، والامتحان والاختبار ، وفن الاختبار عند الشيخ أو المُرشد .

سأضربُ لكم مثلا عن أحد أصحاب سيدنا الحسين (عليه السلام) وهو زهير بن القيِّن (رضي الله عنه) ، كان تاجرًا ثريًا سيد قومه ، ونَاصَرَ الإمام الحسين عندما توجَّه بأهله وأصحابه إلى العراق ..

وهنا وقفة لمن يُريد أن يُفكِّر و يتفكَّر ويجلس مع نفسه يُمحِّص ، فإن القصص يُزاد فيها ويُنقَص إلا قصص القرآن كاملة ، فالكاتبُ وحيٌ سماوي.

وإنَّ لقصة سيدنا ومولانا وقرة أعيننا الإمام الحُسين سيد شباب أهل الجنة ، وِتْر الخالدين ، آخر أولاد الأنبياء رواياتٍ كثيرة.

وبعضُ الناس يتحجَّجون : لماذا الإمام الحُسين خَرَج لإشعال الحرب ؟؟

وهنا نتساءل : هل من عادة أو صفات الذين يذهبون إلى الحرب أن يصطحبوا معهم الأطفال والأهل ؟؟

فنقول: ما كان الإمام الحسين (عليه السلام) ذاهبًا إلى الحرب ، ولكن الأرض قد ضاقت به من الضغط الأموي في ذلك الزمان ، فارتحل باحثًا عن أناس يسمعون الكلام فيتبعون أحسنه ، فكتبوا له : نريد أن نسمع ونعي ونحمل العِلْم ، فذهب (عليه السلام) لطلب الإصلاح ، وإظهار كلمة الحق ، وابتعادًا عن الضغط الأموي الذي مُورِس عليه ليُبايع ، وهو (عليه السلام) لا يُبايع على باطل ، لأن (يزيد ) لم يكن أهلا للخلافة ، ولا لأبيه عهدٌ للخلافة ، بل قد انتزعَ الخلافة انتزاعًا وجَعَلها مُلْكًا عَضُوضًا عقيمًا ..

والخلافةُ إمَّا بوصية نبيّ ، أو خليفة ، وإمَّا شورى ، والخليفةُ المنتخبُ كان هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورضي عنه وكرَّم الله وجهه. عالي المقام، مولى المؤمنين الذي قال في حقِّه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(ألا مَنْ كنتُ مَوْلاهُ فهذا عليٌ مَوْلاه، اللهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وعَادِ مَنْ عَاداهُ وانصُر مَنْ نَصَرهُ واخذُل مَنْ خَذَلهُ، وأدِرْ الحقَّ مَعَه).

والذين خَرَجوا على سيدنا عثمان (رضي الله عنه) فنُسمّيهم بنَفْسِ ما نُسمِّي به الخارجين على أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وإن كان الإمام الحسين (عليه السلام) قد بايع يزيدًا فقد زاد في اعوجاج طريق الإسلام (حاشاه من ذلك (فاختار الفِرار بدين آبائه وأجداده الدين الحق ، ولم يُبايع الباطل ، فخرج بأهله طالبًا الإصلاح ، يطلُب الناسَ بالكلمة (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) . ولهذا فقد خَرَج بأهله وأطفاله صغارًا وكبارًا ونساء . ولو أراد سيدُنا الحُسين حَرْبًا لأعدَّ لها ..

رُبَّ سائل يسأل : لماذا أرسل الإمام الحسين الرُّسلَ ، ولماذا تبادل الرسائل ؟؟

هذا ديدنُ السؤال .. والجواب : الأتباع يسألون والإمامُ يُجيبُ ، ولا نية لحربٍ إلا بالكلمة .

والزيادة والنقصان في القصة كبيران ، ونحن لسنا بصدد القصة كاملة.

نحن بصدد الكلام عن الرجل الشجاع زُهير بن القيِّن (رضي الله عنه) ، عندما طلبهُ الإمام الحسين (عليه السلام) ، فَكَّر بضع ساعات ما بين الصُّبح والظهيرة، فوَهَبَ جميع أمواله لزوجته ، وحَمَل ما يستطيع حَمْله من الأموال ، ثم طلَّق زوجته ، وقال لها : أخافُ أن أذهب مع الحسين فأُقتل ، فيكون حُجَّة لبني أُميَّة ليأخذوكِ سَبيَّة ، ولحق برَكْب النور ، بطريق أهل العشق ، بطريق أهل التصوف ، بطريق أهل العرفان ، مُبتسمًا مُقبلا ليس بمُدبر .. وهنا الوفاء والالتزام بالعهد ، وكيف لا يُجيب الحسينَ صاحب العهد والميثاق (عليه السلام) ..

وهنا سؤالي : وليس تشبيهًا لنفسي بالإمام الحسين ، فإني لا أصلُ إلى غُبار نَعْله ، بل أعتبرُ نفسي الغُبارَ الذي التصَقَ بمكان وَضْعِ قَدَم الإمام الحسين (عليه السلام) على أيِّ مكان .. بل أنا أقل من ذلك ، فأين الثَّرى من الثُّريا ؟؟

ولكن إلى تلاميذي من فقهاء وقُرَّاء وتجار ومُحدِّثين وأطباء وقُضاة ومحامين ، ولا أمثِّل نفسي فقط ، بل شريحة من شرائح المدارس الإسلامية في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ ، فكثيرون جَلَسوا أمامي عندما كانوا بحاجة إلى نصائحي في أمور الدين والدنيا ، يجلسون أمامي بالانكسار والذُّل والسَّكينة ، ويقولون : نفديكَ يا سيدي بالمال والولد ، وعندما يصل إلى الحقيقة أو يحس بنوع من الخطر ، يرتعد ويخاف وينقلب كانقلاب الأسد فأرًا أو ثعلبًا ، أو كانقلاب اللون الأسود إلى أبيض ، أو الأبيض إلى أسود ، وينحرف عن جادة الصواب ، فإذا كان تاجرًا وشَارَكَنا وأعطيناه الثقة والأمان ، ولم نأخذ منه شيئًا ، فلمَّا طالبناه بحقوق الفقراء انقلب مؤمنًا زاهدًا عابدًا ، وصرنا نحن أهل الشِّرك والضلال ، أهذا هو العدل ؟؟

وإذا كان فقيهًا انقلب هو العالم ونحن أهل الجهل والضَّلال .

وإن كان من الأقرباء فيتذكر أيام الطفولة ويقول : ألم نكن أطفالا مع بعض ؟؟ فكيف أصبحتَ عالمًا ، وكيف تدّعي العِلْمَ ؟؟ وهو لا يعلم سنوات العلم والمثابرة ..

وإن كان من المقربين جدًا من أصل العشيرة يبدأ يُنكر عليك ..

أقول : إلى من زارنا ضيفًا ، ومن تتلمذ على يدينا ، ومن أخذ العَهْد عَلَينا ، ومن أكَلَ طعامنا ، ومن عَمِلَ بجوارنا ، ومن علَّمناهُ حَرْفًا ..

ألا تستحون من الله ورسوله ، كيف تخونون الدين ، وتخونون الضيافة ، وكيف تخونون ساعات وساعات أعطيناكم من وقتنا نُعلِّمكُم في الليل والنهار ؟؟

ألا تخجلون من أنفسكم ؟؟

لماذا العهد رخيص عند الشعوب في الشَّرق ؟؟

أمَّا الغرب فليسوا أهل تصوف ولا عرفان ولا روحانيات ولا علوم آخرة، ولا سند متصل بين أستاذ وتلميذ ، كل ما هنالك تلميذ وأستاذ من باب الأمور المادية تراهم يركعون لأساتذتهم ، فالتلميذُ إذا رأى الأستاذ ينحني له ، ويُقدِّم قَلَمه لأستاذه ، وفاءً بالعَهْد ، ولا يخون، ويذكر أستاذه في حياته وبعد موته !!

حسبي الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبي الله ونعم الوكيل في جميع أصحابي وتلاميذي وضيوفي الذين أخذوا منَّا المشورة أو أكلوا من طعامنا وجَلَسوا ونَطَقوا بكلمات نفديكم بالمال والولد ، وهم من أهل الغش والنفاق والغدر والخيانة ..

اللهم اغفر لنا جميعًا واهدنا جميعًا لطريق الحق .. اللهم انتقم من الظالمين ، ألا لعنة الله على الظالمين ، ولعنة الله على الطَّمَع والجشع وبريق الأموال .. لمن تكنزون؟؟

وصلى الله على سيدنا محمد وآله والأطهار وأصحابه الأخيار

◈◈◈◇◈◈◈
مقتطفات من مؤلفات و كتابات فضيلة السيد الشيخ محمد تحسين الحُسيني النقشبندي القادري (قدس الله سره)


المصدر: المدرسة المحمدية النقشبندية
تحرير:
نورالدين الشيخ زياد الدلوي

الدعم الفني: seodanisman

Subscribe
Bildir
guest
Bizi Değerlendirin
0 Yorum
Inline Feedbacks
View all comments
Lütfen kopyalamayın!
0
Düşüncelerinizi çok isterim, lütfen yorum yapın.x